إلى طفل أوحد كنته وإلى أطفال كثر لم أكنهم.
إلينا نحن الذين نشابه بعضنا ولا نتشابه.
كم سخرت كتبُ والدي التي كانت في الرفوف العليا من المكتبة من قفزاتي المتكررة الآملة في الوصول إلى كتابٍ واحد ، حتى أقلب عابثة صفحاته ، أمزّق بعضها وأحاول سبر أغوار البعض الآخر، حتى ألوك الكلمات الشهية وأتذوّق عصارة فكر أو عاطفة كاتبٍ ما أو أحاول بعجب في نفسي فكّ رموز الأسطر الماثلة أمامي بأول الأحرف التي أتقنت لفظها “ب ب، م م، ت ت”
فأختزل كلّ الجهد المبذول لمؤلفٍ ما بأحرفي البسيطة وأشعر بالانتصار.
ولكن يا للأسف كنتُ أقصر من أن أطال كلّ ذلك المجد وكان أبي أحرص من أن يفرّط بكنزه الخاص وكتبه الثمينة ويجعلها في متناولِ طفلِة مشاغبة مثلي لا تقدّر قيمة الكتاب وتحاولُ عبثًافهم العالم حولها ببعض محاولاتٍ ساذجة..
أمّا أنتَ فقد كانت قصتك مختلفة لكنها مُحبطة هي الأخرى ، فعلى العكس مني، كم حاولَ والداك أن يدسّا وجهك بين دفتيّ كتاب، في كل فرصة تسنت لهما.
– تريد أن تخلد إلى النوم ؟ اصطحب كتابًا معك وسيكون خير أهزوجة تغفو على إيقاعها.
– مللتَ من مشاهدة التلفاز ؟ اقرأ كتابًا فهذا أنفع لكَ حتى تزداد ثقافتك وتتسع آفاق معرفتك وتُثري مخيلتك.
– تُريد أن تلعب مع الرّفاق ؟ حسنًا ولكن انتهي من وردك اليوميّ في القراءة وستكون مكافأتك، قضاء وقتٍ أطول معهم.
– – حان موعد الرحلة الأسبوعية للعائلة ؟ لا تنسى أن تأخذ كتابك حتى تستثمر وقتك إلى حين الوصول إلى الوجهة المحددة.
وهكذا تضيق أنفاسكّ كلما رأيتَ كتابًا ما، فتختنق بتوجيهات الضرورة والوجوب والإلزام، وتضيع رغمًا عنك، الحياة التي أردت أن تعيشها طفلاً، طفلاً يُمارس الحياة دون أن يشعر بأنّ هناك ثمنٌ مقدمٌ أو موخرٌ يشق عليه ويجب دفعه.
مهلاً وأنتَ قبل أن تهرب دعنا نتحدّث قليلاً عن مأساتك، أنت الذي تعتبر القراءة فعل مقاومة لكل عوارض الحياة، تقاوم الملل بالقراءة، تقاوم الحزن بالقراءة، تقاوم العجز بالقراءة، تقاوم الوحدة بالقراءة، تقاوم الخوف بالقراءة، فالقراءة توفّر لك منافذ الهرب الممكنة من الحياة وإليها.
ثمّ تضطر لسماع تعليقاتٍ قاسية من الكبار، من قبيل : أنت تُنهك نفسك بالقراءة ، تضعف نظرك وتخفض مستويات صحتك، وتقلّص دائرة علاقاتك الاجتماعية وتجنح للعزلة، ويتراجع مستواك الدراسي. إذن عليك الآن أن تتوقف!
نعم تتوقف عن القراءة.
يصدرون قرارهم ويذهبون ، دون أن يتريثوا ليفهموا أنهم بهذا يصادرون حقك في المقاومة، أنهم من ينهكك الآن فعلاً ويجرّدك من سلاح مقاومتك الوحيد.
فكيف ستقاوم مأساتك الآن ؟
إلى الكبار الذين لا يقدّرون محاولات طفلٍ يريد أن يقرأ أو يرفض ذلك
إليهم هم الذين يشابهون بعضهم ويتشابهون في قسوتهم حينما لا يفهمون المغزى وراء هذا المقطع لدانيال بناك من كتابه “متعة القراءة”
” لا يتحمّل فعل – قرأ – صيغة الأمر. وهو اشمئزاز تشاطره إيّاه عدّة أفعال أخرى، كفعل “أَحَبَّ” …. وفعل “حَلَمَ” طبعًا تبقى المحاولة ممكنة، هيّا لنحاول
(أحبّنِي ، اِحلَم ، اقرَأ)!”
ليكرر الكبار الذين أقصدهم ذلك المقطع أكثر من مرة، حتى يشعروا تحديدًا بما تخلّفه قسوتهم على الأطفال حين يستخدمون فعل “القراءة” بصيغة الأمر ونهيه.
قساةٌ أنتم إذ تصادرون حقّ الأطفال حين تقفون عائقًا بينهم وبين كلّ ما يحاولون الوصول إليه، حتى يلمسوه ويتحسسوه، ويشتمّوه،ويتذوقوه، ككل شيء حولهم، كالكتبِ مثلاً في محاولةٍ ربما تكون ساذجة وعابثة لكنها بالتأكيد ستساعدهم في فهم جزءٍ من العالم وربما قد تؤسس لعلاقة وطيدة بينهم وبين المكتبة في يومٍ ما.
قساةٌ أنتم حين تحاولون جبرًا خلق علاقة ما بين الأطفال والكتب من باب الثقافة والمعرفة و دعاوى أخرى واهية لا يستطيعون فهمها ولا الإيمان بها وكل ما يعرفونه أنّها تقيّدهم وتختزل كل الحياة التي يتشوقون لخوضها بين دفتيّ كتابٍ هزيلٍ يقتطع من أعمارهم ، ولا يستوعب أحلامهم، فإنّ لمّ تكن المتعة بمختلف ضروبها هي الباب الأوّل الذي يدلفون منه إلى القراءة وعالم الكتب، فقد يكون عمر العلاقة التي تؤسسون لها قصير وقلما يثمر.
قساةٌ أنتم، حين تحمّلون فعل القراءة أوزاركم ، فالأطفالُ الذين يتعاملون مع الكتاب كصديق يدفع عنهم كلّ مالا يطيقونه من عوارض الحياة، منكم أنتم في بعض الأحيان، يضعفون، يتهاوون ويسقطون إذا ما جُرّدوا من سلاحهم الوحيد، فهل تزيدون على أوزاركم وزرَ طفلٍ يحيا ليقرأ، ويقرأ ليحيا.
ملاحظة : كتاب متعة القراءة لدانيال بِناك كتاب شيّق وسهل لا يتجاوز 158 صفحة يتحدث عن الفعل القرائي وطرق ممارسته تارة وطرق الحد منه تارة أخرى وعن حقوق القارئ المتاحة لهدائمًا،ويتنوّع سرده ما بين القصص والمقالات القصيرة.
تحياتي : أصالة كنبيجه
تدقيق لغوي: رهف حاج عيسى
Instagram: @Rahaf94