لا زلتُ أذكر بداياتي في أوّل نادٍ قرائي التحقتُ به في المرحلة الثانوية، في محاولة أخيرة مني للتعاطي مع فعل القراءة كما يجب، نعم حينها كنتُ أعتقد أنّ الواجب الثقافي أو الفكري يحتّم عليّ أن أجد البداية المناسبة للشروع في فعل القراءة، وما الذي سيكون أكثر مناسبة من تحلّقي حول طاولة ما وبحضرة القهوة الساخنة أنا وأصدقاء الكتب في محاولة مني لامتصاص تلك العلاقة، أعترفُ أني لم أكن ملتزمة كثيرًا في حضوري بداية، بعض اللقاءات اعتذرتُ عنها لأسباب مختلفة والآن أرى كم كانت أسبابي واهية وذرائعي هشّة.
وقد حضر الدكتور مريد في أحد اللقاءات التي تخلّفتُ عنها، الحقيقة أني فوّتُ لقاءه عمدًا، لا زلتُ أذكر المرة التي قال لي فيها الأصدقاء أن كتاب الشهر القادم سيكون ” رأيتُ رام الله ” لمريد البرغوثي.
بدا لي الاسم بعيدًا، بقدر المسافة الجغرافيّة الفاصلة بيننا وبين فلسطين هكذا كنتُ أظنّ، وعندما لم تتح لي فرصة اقتناء الكتاب من جرير، أرسلت لي إحدى الصديقات رابط الكتاب لتحميله إلكترونيًا وفعلتها، فتحتُه، بدأت بقراءته، وقبل أن ألتقِ مريد، وبعد اكتفائي بلقاء إدوارد سعيد مقدّم الكتاب، هربت. هربتُ لأن المسافة الجغرافية كانت حاضرة بيني وبين الكتاب، هربتُ لأني لم أفهم كلمة مما قالها إدوارد في المقدمة، هربتُ لأنّ كلمة ” سياسة ” هذه الكلمة الشائكة كانت حاضرة فوق ظهور الكلمات بثقلٍ أفزعني فقررت الفرار بنفسي. ولم أقرأ ” رأيتُ رام الله حينها.
وكم رمقتُ هذا الكتاب بنظراتي المتوجسة في كل رحلة جريرية مررتُ بجانبه وقتها، أتجاوزه سريعًا حتى لا أحاكم بذنب هربي.
اليوم وبعد قراءتي له، بعد النهم الذي أصابني وأنا أقلبه صفحة تلوَ أخرى متجاوزة وردي اليومي المقرر سلفًا من عدد صفحات الكتاب، لأنتهي منه في ظرف 4 أيّام فقط أنا التي حاولتُ سابقًا قراءة صفحة واحدة منه يوميًا ولم أفلح، أدركتُ أنّه ما كان لي أن أقرأه قبل الآن، لأني لن أفهم.
لأني لن أفهم مريد، لن أفهم ما قاله وما لم يقله، لن أفهم رام الله ولن أفهم معنى كلمة “الأرض المحتلة”.
لم أكتسب نضج استيعاب الإنسان ومأساته حينها، لم أكن سأفهم الغرباء كما وصفهم مريد وهو واحد منهم “الغريب هو الذي تنعطب علاقته بالأمكنة، يتعلق بها وينفر منها في الوقت نفسه… ذاكرتهُ تستعصي على التنسيق، الغريب هو الذي يقول له اللطفاء من القوم: أنت هنا في وطنك الثاني وبين أهلك. هو الذي يحتقرونه لأنه غريب. أو يتعاطفون معه لأنه غريب. والثانية أقسى من الأولى ” لم أكن لأفهم كلّ ذلك قبل الآن.”
أنا التي اعتنيتُ مؤخرًا بعد أن طُرح لي خيار الابتعاث كأحد خيارات إكمال دراستي الجامعية، بكلمات من قبيل وطن، وانتماء وحاولتُ فهمها على طريقة الأستاذة بثينة العيسى في مؤلفها ” حاء “.
عندما حاولت في أحد مقالاتها التعامل مع اللغة على مستوى التشريح لفكّ شفرة الكون وفهم العالم وهأنذا أسير على نهجها ربما أصل..
ها هي كلمة وطن لنبدأ معها الواو ود، الطاء طهر والنون نعيم، الود يفسر مشاعري تجاه الوطن والطهر أنسبه إلى الأرض وترابها والسماء وغيومها إلى الطبيعة وخيراتها، والنعيم هي حوزتي عليهما في آنٍ معًا.
هل نجحت؟ هل هذا ما قصدته الأستاذة بثينة؟ هل أبليتُ بلاء حسنًا لفهم الوطن؟
لأحاول إذن مع كلمة انتماء الألف أنت وأنا ونحن نقف بإباء على أرض الوطن دون وجود راياتٍ تكسر إباءنا أو أسلحة تحني ظهورنا، والنون نضارة، نضارة كل شيء يكون و يعيش على أرض الوطن بما فيهم أنت وأنا أيضًا والميم مودة ونعود للوداد كسيّد مشاعر الانتماء وأختم بالألف أو الهمزة أنت وأنا ثالثًا، يبدو أنّ كلمة انتماء كانت واضحة أكثر من الوطن أفهمُ منها أنّ جذورنا الممتدة في أوطاننا يصعب اقتلاعها فمع كل الاحتمالات أنت وأنا موجودان، هل نجحتُ إذن في فهم الانتماء على ذات خطوي مع الوطن؟ لا أدري
لكني متأكدة بأني لم أفهم قط الكلمتين كما فهمتهما وأنا أعود مع مريد إلى فلسطين إلى رام الله إلى قريته دير غسّانة بعد أعوامٍ طويلة من الغياب غيابه هو عن رام، غياب أخوه الأكبر منيف عنه، غيابه عن زوجته رضوى وابنه تميم وغياب تميم عن وطنه وسلسلة متوالية من الغيابات التي لا تنتهي.
أفهم الكلمتين وأنا أشعر برعشتي حين قرأتُ المقطع الذي عبّر فيه مريد عن تدافع الوقائع والمشاوير والعبارات وقائليها، عبّر فيه عن تدافع هذه الذاكرة المتكدسة والعصيّة على الترتيب والتنسيق، فكان الإيقاع محمومًا كما وصفه لأنه أراد استعادة رام الله بعد غياب 30 سنة دفعة واحدة، إلى حواسه الخمس.
أفهمُ الكلمتين جيّدا وطن وانتماء بشكل يفوق تشريحهما وتفكيكهما مع هذه الشتات الذي يعيشه مريد والشعب الفلسطيني استنادًا على قاعدة ” وبضدها تتميز الأشياء”.
ثمّ يقول مريد في مقطع آخر واصفًا الجندي الذي كان على الضفة الأخرى من الجسر الفاصل بين الأردن والضفة الغربية لفلسطين جسر الملك حسين أو معبر الكرامة أو كيفما كانت تسميته:
“هذا الجندي ذو القبعة ليس غامضًا على الإطلاق. على الأقل بندقيته شديدة اللمعان. بندقيته هي تاريخي الشخصيّ. هي تاريخ غربتي. بندقيته هي التي أخذت منا أرض القصيدة وتركت لنا قصيدة الأرض. في قبضته تراب وفي قبضتنا سراب.
هل هو مستعد للقتل بتلذذ؟ أم أنه يقوم بواجب العسكري الذي لا مفر منه؟ هل هناك من امتحن إنسانيته الفردية؟ إنسانيته هو بالذات؟ أعلم كل شيء عن لا إنسانية وظيفته. إنه جندي احتلال.
هل هو مؤهل للانتباه إلى إنسانيتي؟ إنسانية الفلسطينيين الذين يمرّون تحت ظل بندقيته اللامعة كل يوم؟”
وها أنا أقرأ مريد وفلسطين وأنتبه للوطن وأحاول فهم الانتماء.
الآن لم تعد المسافة الجغرافية حاضرة، فقد ذهبتُ إلى فلسطين وفهمت الوطن في وقتٍ واحد، الآن فلسطين وشعبها فيّ وأنا في وطني.
لن أعتذر لمريد لأني فوّت لقاءه ولن أعتذر لرام الله لأني خشيتُ فهمها سابقًا، لأني كنتُ سأذنب حقيقة فيما لو قرأت مريد ورام الله بانتباهٍ وفهم أقل مما فعلتُ الآن.
لكل كتاب وقته المناسب ومقدار معين من النضج لاستيعابه، والأهم أنّ كل كتاب مُتاح لقراءتك له مراتٍ عديدة، ويمنحك مشروعية الرجوع إليه في كل مرة بدهشة أكبر وقراءة أنفع.
يقول لنا دانيال بِناك في كتابه متعة القراءة في لائحة: الحق في إعادة القراءة (( إعادة قراءة ما رفضني في المرة الأولى ، وإعادة القراءة دون القفز عن بعض المقاطع، إعادة القراءة من منظور جديد، إعادة القراءة للتأكد، نعم … إننا نمنح أنفسنا كل هذه الحقوق )).
وأنا وجدتُ أن كل تجربة لها عصارتها اللذيذة، وحدك، وحدي، وحدنا، من نستطيع خوض التجارب المتاحة أو خلق تجاربنا الخاصة ابتداءً مع الكتب أو في معترك الحياة، ولا يهم أيهما يسبق الآخر الخوض أم الخلق المهم أن يحين وقته.
ملاحظة:
كتاب رأيتُ رام الله يحكي فيه الكاتب مريد البرغوثي عن سيرة غربته بين الأوطان سيرة كل شخص لاجئ ومهاجر ومفرط في الغياب عن وطنه، وعن مشاعره عند عودته الأولى إلى وطنه فلسطين.
كتاب حاء للكاتبة بثينة العيسى عبارة عن مجموعة مقالات شخصية للكاتبة في فلسفتها حول بعض المفاهيم كالحياة والحب والحرية والحقيقة.
تحياتي: أصالة كنبيجه
تويتر @A9o0L
تدقيق لغوي: رهف حاج عيسى
Insta: rahaf94